فصل: هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ فِي الْإِشَارَةِ إلَى بَعْضِ الْحِكَمِ الّتِي تَضَمّنَتْهَا هَذِهِ الْهُدْنَةُ:

وَهِيَ أَكْبَرُ وَأَجَلّ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهَا إلّا اللّهُ الّذِي أَحْكَمَ أَسْبَابَهَا فَوَقَعَتْ الْغَايَةُ عَلَى الْوَجْهِ الّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَحَمْدُهُ.

.مُقَدّمَةٌ لِلْفَتْحِ:

فَمِنْهَا: أَنّهَا كَانَتْ مُقَدّمَةً بَيْنَ يَدَيْ الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ الّذِي أَعَزّ اللّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَجُنْدَهُ وَدَخَلَ النّاسُ بِهِ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجًا فَكَانَتْ هَذِهِ الْهُدْنَةُ بَابًا لَهُ وَمِفْتَاحًا وَمُؤْذِنًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهَذِهِ عَادَةُ اللّهِ سُبْحَانَهُ فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ الّتِي يَقْضِيهَا قَدَرًا وَشَرْعًا أَنْ يُوَطّئَ لَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا مُقَدّمَاتٍ وَتَوْطِئَاتٍ تُؤْذِنُ بِهَا وَتَدُلّ عَلَيْهَا.

.هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ:

وَمِنْهَا: أَنّ هَذِهِ الْهُدْنَةَ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ فَإِنّ النّاسَ أَمِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَاخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ بِالْكُفّارِ وَبَادَءُوهُمْ بِالدّعْوَةِ وَأَسْمَعُوهُمْ الْقُرْآنَ وَنَاظَرُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ جَهْرَةً آمِنِينَ وَظَهَرَ مَنْ كَانَ مُخْتَفِيًا بِالْإِسْلَامِ وَدَخَلَ فِيهِ فِي مُدّةَ الْهُدْنَةِ مَنْ شَاءَ اللّهُ أَنْ يَدْخُلَ وَلِهَذَا سَمّاهُ اللّهُ فَتْحًا مُبِينًا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَضَيْنَا لَك قَضَاءً عَظِيمًا وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَا قَضَى اللّهُ لَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنّ الْفَتْحَ- فِي اللّغَةِ- فَتْحُ الْمُغْلَقِ وَالصّلْحُ الّذِي حَصَلَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ كَانَ مَسْدُودًا مُغْلَقًا حَتّى فَتَحَهُ اللّهُ وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ فَتْحِهِ صَدّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ عَنْ الْبَيْتِ وَكَانَ فِي الصّورَةِ الظّاهِرَةِ ضَيْمًا وَهَضْمًا لِلْمُسْلِمِينَ وَفِي الْبَاطِنِ عِزّا وَفَتْحًا وَنَصْرًا وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْظُرُ إلَى مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْفَتْحِ الْعَظِيمِ وَالْعِزّ وَالنّصْرِ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ وَكَانَ يُعْطِي الْمُشْرِكِينَ كُلّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعْلَمُ مَا فِي ضِمْنِ هَذَا الْمَكْرُوهِ مِنْ مَحْبُوبٍ {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَةُ 216].
وَرُبّمَا كَانَ مَكْرُوهُ النّفُوسِ إلَى ** مَحْبُوبِهَا سَبَبًا مَا مِثْلُهُ سَبَبٌ

فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى تِلْكَ الشّرُوطِ دُخُولَ وَاثِقٍ بِنَصْرِ اللّهِ لَهُ وَتَأْيِيدِهِ وَأَنّ الْعَاقِبَةَ لَهُ وَأَنّ تِلْكَ الشّرُوطَ وَاحْتِمَالَهَا هُوَ عَيْنُ النّصْرَةِ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْجُنْدِ الّذِي أَقَامَهُ الْمُشْتَرِطُونَ وَنَصَبُوهُ لِحَرْبِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَذَلّوا مِنْ حَيْثُ طَلَبُوا الْعِزّ وَقُهِرُوا مِنْ حَيْثُ أَظْهَرُوا الْقُدْرَةَ وَالْفَخْرَ وَالْغَلَبَةَ وَعَزّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ انْكَسَرُوا لِلّهِ وَاحْتَمَلُوا الضّيْمَ لَهُ وَفِيهِ فَدَارَ الدّوْرُ وَانْعَكَسَ الْأَمْرُ وَانْقَلَبَ الْعِزّ بِالْبَاطِلِ ذُلّا بِحَقّ وَانْقَلَبَتْ الْكَسْرَةُ لِلّهِ عِزّا بِاَللّهِ وَظَهَرَتْ حِكْمَةُ اللّهِ وَآيَاتُهُ وَتَصْدِيقُ وَعْدِهِ وَنُصْرَةُ رَسُولِهِ عَلَى أَتَمّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا الّتِي لَا اقْتِرَاحَ لِلْعُقُولِ وَرَاءَهَا.

.زِيَادَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ:

وَمِنْهَا: مَا سَبّبَهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ وَالِانْقِيَادِ عَلَى مَا أَحَبّوا وَكَرِهُوا وَمَا حَصَلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الرّضَى بِقَضَاءِ اللّهِ وَتَصْدِيقِ مَوْعُودِهِ وَانْتِظَارِ مَا وُعِدُوا بِهِ وَشُهُودِ مِنّةِ اللّهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِالسّكِينَةِ الّتِي أَنْزَلَهَا فِي قُلُوبِهِمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إلَيْهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ الّتِي تُزَعْزَعُ لَهَا الْجِبَالُ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سَكِينَتِهِ مَا اطْمَأَنّتْ بِهِ قُلُوبُهُمْ وَقَوِيَتْ بِهِ نُفُوسُهُمْ وَازْدَادُوا بِهِ إيمَانًا. وَمِنْهَا: أَنّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ هَذَا الْحُكْمَ الّذِي حَكَمَ بِهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ سَبَبًا لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَغْفِرَةِ لِرَسُولِهِ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخّرَ وَلِإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ وَلِهِدَايَتِهِ الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَنَصْرِهِ النّصْرَ الْعَزِيزَ وَرِضَاهُ بِهِ وَدُخُولِهِ تَحْتَهُ وَانْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الضّيْمِ وَإِعْطَاءِ مَا سَأَلُوهُ كَانَ مِنْ الْأَسْبَابِ الّتِي نَالَ بِهَا الرّسُولُ وَأَصْحَابُهُ ذَلِكَ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ جَزَاءً وَغَايَةً وَإِنّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى فِعْلٍ قَامَ بِالرّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ حُكْمِهِ تَعَالَى وَفَتْحِهِ. وَتَأَمّلْ كَيْفَ وَصَفَ- سُبْحَانَهُ- النّصْرَ بِأَنّهُ عَزِيزٌ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ ثُمّ ذَكَرَ أَشَدّ الْقَلَقِ فَهِيَ أَحْوَجَ مَا كَانَتْ إلَى السّكِينَةِ فَازْدَادُوا بِهَا إيمَانًا إلَى إيمَانِهِمْ ثُمّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَيْعَتَهُمْ لِرَسُولِهِ وَأَكّدَهَا بِكَوْنِهَا بَيْعَةً لَهُ سُبْحَانَهُ وَأَنّ يَدَهُ تَعَالَى كَانَتْ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ إذْ كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَذَلِكَ وَهُوَ رَسُولُهُ وَنَبِيّهُ فَالْعَقْدُ مَعَهُ عَقْدٌ مَعَ مُرْسِلِهِ وَبَيْعَتُهُ بَيْعَتُهُ فَمَنْ بَايَعَهُ فَكَأَنّمَا بَايَعَ اللّهَ وَيَدُ اللّهِ فَوْقَ يَدِهِ وَإِذَا كَانَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينَ اللّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبّلَهُ فَكَأَنّمَا صَافَحَ اللّهَ وَقَبّلَ يَمِينَهُ فَيَدُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أَوْلَى بِهَذَا مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ثُمّ أَخْبَرَ أَنّ نَاكِثَ هَذِهِ الْبَيْعَةِ إنّمَا يَعُودُ نَكْثُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَنّ لِلْمُوفِي بِهَا أَجْرًا عَظِيمًا فَكُلّ مُؤْمِنٍ فَقَدْ بَايَعَ اللّهَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ بَيْعَةً عَلَى الْإِسْلَامِ وَحُقُوقِهِ فَنَاكِثٌ وَمُوفٍ. ثُمّ ذَكَرَ حَالَ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ مِنْ الْأَعْرَابِ وَظَنّهُمْ أَسْوَأَ الظّنّ بِاَللّهِ أَنّهُ يَخْذُلُ رَسُولَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ وَجُنْدَهُ وَيُظْفِرُ بِهِمْ عَدُوّهُمْ فَلَنْ يَنْقَلِبُوا إلَى أَهْلِيهِمْ وَذَلِكَ مِنْ جَهْلِهِمْ بِاَللّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ وَجَهْلِهِمْ بِرَسُولِهِ وَمَا هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُعَامِلَهُ بِهِ رَبّهُ وَمَوْلَاهُ. ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ رِضَاهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ بِدُخُولِهِمْ تَحْتَ الْبَيْعَةِ لِرَسُولِهِ وَأَنّهُ وَكَمَالِ الِانْقِيَادِ وَالطّاعَةِ وَإِيثَارِ اللّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ السّكِينَةَ وَالطّمَأْنِينَةَ وَالرّضَى فِي قُلُوبِهِمْ وَأَثَابَهُمْ عَلَى الرّضَى بِحُكْمِهِ وَالصّبْرِ لِأَمْرِهِ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ أَوّلُ الْفَتْحِ وَالْمَغَانِمِ فَتْحَ خَيْبَرَ وَمَغَانِمَهَا ثُمّ اسْتَمَرّتْ الْفُتُوحُ وَالْمَغَانِمُ إلَى انْقِضَاءِ الدّهْرِ.

.مَعْنَى فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ:

وَوَعَدَهُمْ سُبْحَانَهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ عَجّلَ لَهُمْ هَذِهِ الْغَنِيمَةَ وَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنّهُ الصّلْحُ الّذِي جَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوّهِمْ وَالثّانِي: أَنّهَا فَتْحُ خَيْبَرَ وَغَنَائِمُهَا ثُمّ قَالَ: {وَكَفّ أَيْدِيَ النّاسِ عَنْكُمْ} [الْفَتْحُ 20] فَقِيلَ أَيْدِيَ أَهْلِ مَكّةَ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ وَقِيلَ أَيْدِيَ الْيَهُودِ حِينَ هَمّوا بِأَنْ يَغْتَالُوا مَنْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الصّحَابَةِ مِنْهَا. وَقِيلَ هَمّ أَهْلِ خَيْبَرَ وَحُلَفَاؤُهُمْ الّذِينَ أَرَادُوا نَصْرَهُمْ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ. وَالصّحِيحُ تَنَاوُلُ الْآيَةِ لِلْجَمِيعِ. وَقَوْلُهُ: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} قِيلَ هَذِهِ الْفِعْلَةُ الّتِي فَعَلَهَا بِكُمْ وَهِيَ كَفّ أَيْدِي أَعْدَائِكُمْ عَنْكُمْ مَعَ كَثْرَتِهِمْ فَإِنّهُمْ حِينَئِذٍ كَانَ أَهْلُ مَكّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا وَأَهْلُ خَيْبَرَ وَمَنْ حَوْلَهَا وَأَسَدٌ وَغَطَفَانُ وَجُمْهُورُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ أَعْدَاءً لَهُمْ وَهُمْ بَيْنَهُمْ كَالشّامَةِ فَلَمْ يَصِلُوا إلَيْهِمْ بِسُوءٍ فَمِنْ آيَاتِ اللّهِ سُبْحَانَهُ كَفّ أَيْدِي أَعْدَائِهِمْ عَنْهُمْ فَلَمْ يَصِلُوا إلَيْهِمْ بِسُوءٍ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَشِدّةِ عَدَاوَتِهِمْ وَتَوَلّي حِرَاسَتِهِمْ وَحِفْظِهِمْ فِي مَشْهَدِهِمْ وَمَغِيبِهِمْ وَقِيلَ هِيَ فَتْحُ خَيْبَرَ جَعَلَهَا آيَةً لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَامَةً عَلَى مَا بَعْدَهَا مِنْ الْفُتُوحِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وَعَدَهُمْ مَغَانِمَ كَثِيرَةً وَفُتُوحًا عَظِيمَةً فَعَجّلَ لَهُمْ فَتْحَ خَيْبَرَ وَجَعَلَهَا آيَةً لِمَا بَعْدَهَا وَجَزَاءً لِصَبْرِهِمْ وَرِضَاهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَشُكْرَانًا وَلِهَذَا خَصّ بِهَا وَبِغَنَائِمِهَا مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ. ثُمّ قَالَ: {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} فَجَمَعَ لَهُمْ إلَى النّصْرَ وَالظّفَرَ وَالْغَنَائِمَ وَالْهِدَايَةَ فَجَعَلَهُمْ مَهْدِيّينَ مَنْصُورِينَ غَانِمِينَ ثُمّ وَعَدَهُمْ مَغَانِمَ كَثِيرَةً وَفُتُوحًا أُخْرَى لَمْ يَكُونُوا ذَلِكَ الْوَقْتَ قَادِرِينَ عَلَيْهَا فَقِيلَ هِيَ مَكّةُ وَقِيلَ هِيَ فَارِسُ وَالرّومُ وَقِيلَ الْفُتُوحُ الّتِي بَعْدَ خَيْبَرَ مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبهَا. ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّ الْكُفّارَ لَوْ قَاتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ لَوَلّى الْكُفّارُ الْأَدْبَارَ غَيْرَ مَنْصُورِينَ وَأَنّ هَذِهِ سُنّتُهُ فِي عِبَادِهِ قَبْلَهُمْ وَلَا تَبْدِيلَ لِسُنّتِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَاتَلُوهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُوَلّوا الْأَدْبَارَ؟ قِيلَ هَذَا وَعْدٌ مُعَلّقٌ بِشَرْطٍ مَذْكُورٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَهُوَ الصّبْرُ وَالتّقْوَى وَفَاتَ هَذَا الشّرْطُ يَوْمَ أُحُدٍ بِفَشَلِهِمْ الْمُنَافِي لِلصّبْرِ وَتَنَازُعِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ الْمُنَافِي لِلتّقْوَى فَصَرَفَهُمْ عَنْ عَدُوّهِمْ وَلَمْ يَحْصُلْ الْوَعْدُ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ. ثُمّ ذَكَرَ- سُبْحَانَهُ- أَنّهُ هُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكَمِ الْبَالِغَةِ الّتِي مِنْهَا: أَنّهُ كَانَ فِيهِمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ قَدْ آمَنُوا وَهُمْ يَكْتُمُونَ إيمَانَهُمْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَلَوْ سَلّطَكُمْ عَلَيْهِمْ لَأَصَبْتُمْ أُولَئِكَ بِمَعَرّةِ الْجَيْشِ وَكَانَ يُصِيبُكُمْ مِنْهُمْ مَعَرّةُ الْعُدْوَانِ وَالْإِيقَاعِ بِمَنْ لَا يَسْتَحِقّ الْإِيقَاعَ بِهِ وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُصُولَ الْمَعَرّةِ بِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمُسْتَخْفِينَ بِهِمْ لِأَنّهَا مُوجَبُ الْمَعَرّةِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُمْ بِهِمْ وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُمْ لَوْ زَايَلُوهُمْ وَتَمَيّزُوا مِنْهُمْ لَعَذّبَ أَعْدَاءَهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدّنْيَا إمّا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَإِمّا بِغَيْرِهِ وَلَكِنْ دَفَعَ عَنْهُمْ هَذَا الْعَذَابَ لِوُجُودِ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ كَمَا كَانَ يَدْفَعُ عَنْهُمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ وَرَسُولُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمّا جَعَلَهُ الْكُفّارُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ حَمِيّةِ الْجَاهِلِيّةِ الّتِي مَصْدَرُهَا الْجَهْلُ وَالظّلْمُ الّتِي لِأَجْلِهَا صَدّوا رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ عَنْ بَيْتِهِ وَلَمْ يُقِرّوا بِبِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَلَمْ يُقِرّوا لِمُحَمّدٍ بِأَنّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ تَحَقّقِهِمْ صِدْقَهُ وَتَيَقّنِهِمْ صِحّةَ رِسَالَتِهِ بِالْبَرَاهِينِ الّتِي شَاهَدُوهَا وَسَمِعُوا بِهَا فِي مُدّةِ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَضَافَ هَذَا الْجَعْلَ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ كَمَا يُضَافُ إلَيْهِمْ سَائِرُ أَفْعَالِهِمْ الّتِي هِيَ بِقُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ. ثُمّ أَخْبَرَ- سُبْحَانَهُ- أَنّهُ أَنْزَلَ فِي قَلْبِ رَسُولِهِ وَأَوْلِيَائِهِ مِنْ السّكِينَةِ مَا هُوَ حَمِيّةِ الْجَاهِلِيّةِ فَكَانَتْ السّكِينَةُ حَظّ رَسُولِهِ وَحِزْبِهِ وَحَمِيّةُ الْجَاهِلِيّةِ حَظّ الْمُشْرِكِينَ وَجُنْدِهِمْ ثُمّ أَلْزَمَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ كَلِمَةَ التّقْوَى وَهِيَ جِنْسٌ يَعُمّ كُلّ كَلِمَةٍ يُتّقَى اللّهُ بِهَا وَأَعْلَى نَوْعِهَا كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ وَقَدْ فُسّرَتْ بِبِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَهِيَ الْكَلِمَةُ الّتِي أَبَتْ قُرَيْشٌ أَنْ تَلْتَزِمَهَا فَأَلْزَمَهَا اللّهُ أَوْلِيَاءَهُ وَحِزْبَهُ وَإِنّمَا حَرَمَهَا أَعْدَاءَهُ صِيَانَةً لَهَا عَنْ غَيْرِ كُفْئِهَا وَأَلْزَمَهَا مَنْ هُوَ أَحَقّ بِهَا وَأَهْلُهَا فَوَضَعَهَا فِي مَوْضِعَهَا وَلَمْ يُضَيّعْهَا بِوَضْعِهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا وَهُوَ الْعَلِيمُ بِمَحَالّ تَخْصِيصِهِ وَمَوَاضِعِهِ. ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ صَدَقَ رَسُولَهُ رُؤْيَاهُ فِي دُخُولِهِمْ الْمَسْجِدَ آمِنِينَ وَأَنّهُ سَيَكُونُ وَلَابُدّ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ آنَ وَقْتُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْعَامِ وَاللّهُ سُبْحَانَهُ عَلِمَ مِنْ مَصْلَحَةِ تَأْخِيرِهِ إلَى وَقْتِهِ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ فَأَنْتُمْ أَحْبَبْتُمْ اسْتِعْجَالَ ذَلِكَ وَالرّبّ تَعَالَى يَعْلَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ التّأْخِيرِ وَحِكْمَتِهِ مَا لَمْ تَعْلَمُوهُ فَقَدّمَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا تَوْطِئَةً لَهُ وَتَمْهِيدًا. ثُمّ أَخْبَرَهُمْ بِأَنّهُ هُوَ الّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ فَقَدْ تَكَفّلَ اللّهُ لِهَذَا الْأَمْرِ بِالتّمَامِ وَالْإِظْهَارِ عَلَى جَمِيعِ أَدْيَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَفِي هَذَا تَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِهِمْ وَبِشَارَةٌ لَهُمْ وَتَثْبِيتٌ وَأَنْ يَكُونُوا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ هَذَا الْوَعْدِ الّذِي لَابُدّ أَنْ يُنْجِزَهُ فَلَا تَظُنّوا أَنّ مَا وَقَعَ مِنْ الْإِغْمَاضِ وَالْقَهْرِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ نُصْرَةً لِعَدُوّهِ وَلَا تَخَلّيًا عَنْ رَسُولِهِ وَدِينِهِ كَيْفَ وَقَدْ أَرْسَلَهُ بِدِينِهِ الْحَقّ وَوَعْدِهِ أَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى كُلّ دِينٍ سِوَاهُ. ثُمّ ذَكَرَ- سُبْحَانَهُ- رَسُولَهُ وَحِزْبَهُ الّذِينَ اخْتَارَهُمْ لَهُ وَمَدَحَهُمْ بِأَحْسَنِ الْمَدْحِ وَذَكَرَ صِفَاتِهِمْ فِي التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَكَانَ فِي هَذَا أَعْظَمُ الْبَرَاهِينِ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِالتّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَأَنّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدّمَةِ بِهَذِهِ الصّفَاتِ الْمَشْهُورَةِ فِيهِمْ لَا كَمَا يَقُولُ الْكُفّارُ عَنْهُمْ إنّهُمْ مُتَغَلّبُونَ طَالِبُو مُلْكٍ وَدُنْيَا وَلِهَذَا لَمّا رَآهُمْ نَصَارَى الشّامِ وَشَاهَدُوا هَدْيَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ وَعَدْلَهُمْ وَعِلْمَهُمْ وَرَحْمَتَهُمْ وَزُهْدَهُمْ فِي الدّنْيَا وَرَغْبَتَهُمْ فِي الْآخِرَةِ قَالُوا: مَا الْمَسِيحَ بِأَفْضَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَكَانَ هَؤُلَاءِ النّصَارَى أَعْرَفَ بِالصّحَابَةِ وَفَضْلِهِمْ مِنْ الرّافِضَةِ أَعْدَائِهِمْ وَالرّافِضَهُ تَصِفُهُمْ بِضِدّ مَا وَصَفَهُمْ اللّهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا و{مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُرْشِدًا} [الْكَهْفُ 17].

.فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ:

قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ مَكَثَ بِهَا عِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا ثُمّ خَرَجَ غَازِيًا إلَى خَيْبَرَ وَكَانَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ وَعَدَهُ إيّاهَا وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: كَانَ فَتْحُ خَيْبَرَ فِي السّنَةِ السّادِسَةِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنّهَا فِي السّابِعَةِ. وَقَطَعَ أَبُو مُحَمّدِ بْنُ حَزْمٍ: بِأَنّهَا كَانَتْ فِي السّادِسَةِ بِلَا شَكّ وَلَعَلّ الْخِلَافَ مَبْنِيّ عَلَى أَوّلِ التّارِيخِ هَلْ هُوَ شَهْرُ رَبِيعٍ الْأَوّلِ شَهْرُ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ أَوْ مِنْ الْمُحَرّمِ فِي أَوّلِ السّنَةِ؟ وَلِلنّاسِ فِي هَذَا طَرِيقَانِ. فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنّ التّارِيخَ وَقَعَ مِنْ الْمُحَرّمِ وَأَبُو مُحَمّدِ بْنُ حَزْمٍ: يَرَى أَنّهُ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ حِينَ قَدِمَ وَكَانَ أَوّلُ مَنْ أَرّخَ بِالْهِجْرَةِ يَعْلَى بْنُ أُمَيّةَ بِالْيَمَنِ كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَقِيلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ سَنَةَ سِتّ عَشْرَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ. وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنّهُمَا حَدّثَاهُ جَمِيعًا قَالَا: انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْفَتْحِ فِيمَا بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ فَأَعْطَاهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهَا خَيْبَرَ {وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الْفَتْحُ 20] خَيْبَرُ فَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ فِي ذِي الْحِجّةِ فَأَقَامَ بِهَا سَارَ إلَى خَيْبَرَ فِي الْمُحَرّمِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالرّجِيعِ وَادٍ بَيْنَ خَيْبَرَ وَغَطَفَانَ فَتَخَوّفَ أَنْ تَمُدّهُمْ غَطَفَانُ فَبَاتَ بِهِ حَتَى أَصْبَحَ فَغَدَا إلَيْهِمْ انْتَهَى.

.قُدُومُ أَبِي هُرَيْرَةَ:

وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ وَقَدِمَ أَبُو هُرَيْرَةَ حِينَئِذٍ الْمَدِينَةَ فَوَافَى سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ فِي صَلَاةِ الصّبْحِ فَسَمِعَهُ يَقْرَأُ فِي الرّكْعَةِ الْأُولَى- كهيعص وَفِي الثّانِيَةِ وَيْلٌ لِلْمُطَفّفِينَ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ وَيْلٌ لِأَبِي فُلَانٍ لَهُ مِكْيَالَانِ إذَا اكْتَالَ اكْتَالَ بِالْوَافِي وَإِذَا كَالَ كَالَ بِالنّاقِصِ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَتَى سِبَاعًا فَزَوّدَهُ حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَلّمَ الْمُسْلِمِينَ فَأَشْرَكُوهُ وَأَصْحَابَهُ فِي سُهْمَانِهِمْ.

.قِصّةُ عَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ:

وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلًا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ: أَلَا تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلًا شَاعِرًا؟ فَنَزَلَ يَحْدُو بِالْقَوْمِ يَقُولُ:
اللّهُمّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ** وَلَا تَصَدّقْنَا وَلَا صَلّيْنَا

فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا ** وَثَبّتْ الْأَقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا

وَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ** إنّا إذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا

صّيَاحِ عَوّلُوا عَلَيْنَا ** وَبِالوَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا

فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ هَذَا السّائِقُ؟ قَالُوا: عَامِرٌ. فَقَالَ رَحِمَهُ اللّهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: وَجَبَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْلَا أَمْتَعَتْنَا بِهِ. قَالَ فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ فَحَاصَرْنَاهُمْ حَتّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ ثُمّ إنّ اللّهَ تَعَالَى فَتَحَ عَلَيْهِمْ فَلَمّا أَمْسَوْا أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا هَذِهِ النّيرَانُ عَلَى أَيّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمٍ. قَالَ عَلَى أَيّ لَحْمٍ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمِ حُمْرٍ إنْسِيّةٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ أَوَنُهْرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ فَقَالَ أَوْ ذَاكَ فَلَمّا تَصَافّ الْقَوْمُ خَرَجَ مَرْحَبٌ يَخْطُرُ بِسَيْفِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي مَرْحَبُ ** شَاكِي السّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرّبُ

إذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهّبُ

فَنَزَلَ إلَيْهِ عَامِرٌ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي عَامِرُ ** شَاكِي السّلَاحِ بَطَلٌ مُغَامِرُ

فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَوَقَعَ سَيْفُ مَرْحَبٍ فِي تُرْسِ عَامِرٍ فَذَهَبَ عَامِرٌ يَسْفُلُ لَهُ وَكَانَ سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ قِصَرٌ فَرَجَعَ عَلَيْهِ ذُبَابُ سَيْفِهِ فَأَصَابَ عَيْنَ رُكْبَتِهِ فَمَاتَ مِنْهُ فَقَالَ سَلَمَةُ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَعَمُوا أَنّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ فَقَالَ كَذَبَ مَنْ قَالَهُ إنّ لَهُ أَجْرَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ إنّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ قَلّ عَرَبِيّ مَشَى بِهَا مِثْلَهُ.